مفهوم التفاعل الثقافي بين الشعوب
إنّ التناغم بين جميع أصول البشر يشكلُ نواةً أساسيّة لبناء المجتمعات وقيامها على بنيان متينٍ من التفاعل الذي يؤدي إلى التقدم والتطور العلمي والعملي الفكري والثقافي والاجتماعي، فلا بد من جاهزية أي مجموعة بشرية للتآلف مع المجموعات الأخرى حتى تستفيد منها وتفيدها في شتى المجالات، فينطوي تحت ذلك العنوان بأهمية التعرف على الثقافات الأخرى، فتكتسب الخبرات والمعلومات والأفكار اللازمة لتكوين صورة أفضل عن العالم والسير في مجالات تطوير استعمال أدواته ومكوّناته، وتقتضي التعايش مع الثقافات الأجنبية المغايرة لما نشأت عليه مجموعة معينة من البشر، وهو ما يسمى أيضًا بالمثاقفة، لما في تلك التسمية من التعبير عن التأثر والتأثير.
لمظاهر التفاعل الثقافي بين الشعوب أنواع كثيرة يمكن أن يتجلى من خلالها، ويمكنُ القول إنّ أنواع هذا التفاعل قد تكون مقصودة أو مفروضة من قبل شعب معين وقد تكون تلقائية، فالمثاقفة المفروضة بالإجبار على الشعب هي التي تتم عبر سيطرة الشعوب القوية على الشعوب الضعيفة، إذ تحكمهم بالقوة وتجبرهم على الانسجام مع مكوّناتها الثقافية كاللغة والتاريخ والمعتقدات الدينية والمظاهر الاجتماعية، ويكون ذلك بعد أن تسلبهم تلك الدول القوية حقوقهم في أدنى متطلبات العيش كالطعام والشراب والملبس والمسكن، ومقوّمات الحياة الطبيعية التي يحيا بواسطتها البشر، فتهدم بذلك البنية التحتية لذلك الشعب لتتمكن من العيش على أرضه وحكمه بالطريقة التي تريدها، ولا شك بأنها تنال من حقوقه السياسية والاقتصادية، لا سيما عندما تكتشف الدول القوية إمكانات تلك الدول الضعيفة جغرافيًّا وبشريًّا.
أما المثاقفة التلقائية تكون نتيجة للحروب التي تقوم بين الشعوب، فتحدث بذلك رغبة الدول المنتصرة في الحصول على العبيد، وكذلك في التواصل السلمي بين الشعوب من خلال التجارة وبناء العلاقات التي تتعلق بالازدهار الاقتصادي، مما يجعل الثقافات تنتقل من مكان إلى مكان وتتمازج مع عدد غير محدود من البلاد، وكثيرًا ما تنتقل المجتمعات من مرحلة المثاقفة التلقائية إلى المثاقفة المفروضة بحكم قوة الدول الاستعمارية وسلطتها ونفوذها، كما يمكن أيضًا أن ينتقل شعب ما من مرحلة المثاقفة المفروضة إلى التلقائية، بحكم الزمن الطويل.
تنقسم المثاقفة من حيث مساراتها ونتائجها إلى مستويين رئيسين، أوّلها هو الدمج بين الثقافتين بأسلوب يجمع كلًّا منها متناغمًا مع الآخر وكأنّه متأصّلٌ مثله، ويتمثل هذا النمط بالأخذ من النمط العام للثقافة الأجنبية والتأثر بها، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير جذري في القيم التي تتخذ معالم أساسية في الثقافة المحلّية، مثل تطوير بعض المجتمعات لطريقة عملها وكسبها من خلال تعرفها على طرق البلاد الأجنبية التي جاورتْها، وذلك يؤدي إلى رفع مستوى الاقتصاد المحلي وتطويره، على عكس الاستعمار الذي يهدم تلك المستويات كافة.
أما النوع الثاني من المثاقفة يتمثل بالتقليد والتمثيل، فهو أقرب إلى تشرُّب ثقافة معينة من قِبل مجموعة أخرى من الأشخاص كالثقافة الأجنبية، وتقتضي تبنّي تلك الثقافة بتفاصيلها المتعددة حيث يتم محو الثقافة الأصلية وإلغائها بهدف الوصول إلى الشكل الذي يعيش خلاله المجتمع المسيطر، فتتخذ الأنماط المتعددة من المثاقفة توافقات عديدة فيما بينها، فمنها ما يؤثر بعمق على البيئة المحلية فيجعل من الأصلية تبعًا لا قيمة له، ومنها ما لا يؤثر بهذا الشكل، وإنما يولّد ثقافةً جديدةً تعطي المجموعة التابعة لها نوعًا من الثبات في الأرض التي تقيم عليها، وتمكن وجودها في المكان الذي تريد البقاء فيه.
أمّا الثقافات التي تبقى بمعزل عن غيرها والتي تبقى على قدر محدود من المتابعة الثقافية تنأى بنفسها عن المؤثرات الخارجية وتبقى محافظةً على انغلاقِها، وقد تتعاقبُ على كل الأنواع الثقافية والتغيرات في المثاقفة المجتمعية عبر الأزمان على مجتمع واحد، فالتفاعل في صيغته الاشتقاقية يعني التأثير المتبادل، والتفاعل مع الحدث هو أن يثير الحدثُ شيئًا ما في الآخر فيدفعه إلى تصرف معين.
يعد التفاعل الثقافي شكلًا من أشكال الحضارة وسببًا من أسباب تكوينها، ويعد الشعب الذي يستطيع الاستفادة من عيوب وأخطاء شعب آخر هو أكثر المجتمعات وعيًا وأكثرهم قدرة على النهضة والمسؤولية، فالمخزون الراكد ليس كافيًا لاستمرارية التطوير العلمي والمعرفي ، ولعلّ أهم ما يمكن أن يحققه التفاعل الثقافي بين الشعوب هو صنع السلام العالمي وتحقيق متطلباته، وهو الذي يعد أمنية البشرية في شتى بقاع الأرض على مدى العصور وتعدّ اللغة هي العامل الأول للتواصل والرابط بين الحضارات، لأنها أداة الإيصال الفكري، والتي تمكن من انتقال ما يريد أي مجتمع أن يفيد من المجتمعات الأخرى.
تتبنى الجامعات في هذا الزمن شكلًا من أشكال التفاعل الثقافي من خلال إقامة مِنح التبادل الثقافي بين الطلبة الجامعيين في بلدين مختلفين، مما يؤدي إلى أداءات مختلفة لمجموعة من الطلبة في كل من البلدين، وهذا ما يساعد على الامتزاج الثقافي والتعرف على مكامن قدرات هؤلاء الطلبة وما يمكن أن يقدموه للبلاد التي ينتسبون إلى جامعاتها، فيحملون تلك المعلومات ونتاج البيئة التي تعرفوا عليها إلى بلدهم الأم، فتزيد القدرات الاجتماعية الثقافية والاقتصادية والسياسية لكل من البلد المرسل والمستقبِل.[١]
أهمية التفاعل الثقافي بين الشعوب
لقد حثّ الدين الإسلامي على تفاعل الناس فيما بينهما لإعلاء شأن التعاون، قال الله تعالى في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[٢]، فدَور التنوع الثقافي في تقارب الشعوب يتخذ شكلًا أساسيًّا من أشكال تكوينها، لأن الإنسان الذي يعيش وحيدًا عبر العصور لا يمكن أن يطوّر وسائل معيشته أو يفتح آفاقه الفكرية دون الاستعانة بالآخر، إذ تتمّ عملية التلاقح الفكرية والثقافية مما يؤدي إلى الإنتاج المبتكر، والتغيير المستمر لشكل الحياة وطريقتها نحو الطريقة الأفضل والأكثر إعانة، حيث تسهم اختلافات الثقافات بين الشعوب بتقديم طرق متعددة لإقامتها بأفضل صورة.
لا بدّ أن يكون ذلك التفاعل منظمًا ومضبوطًا بضوابط أساسية، حيث يجب الفصل بين التواصل السلبي والتواصل الإيجابي بين مجتمعين، فحين يأخذ المجتمع بالتأثيرات الإيجابية يستطيع استثمار تلك المتغيّرات في حياته العملية وفق أهداف علمية أو عملية، أما التأثيرات السلبية التي تفيد بالانقلاب على التقاليد الأصيلة لذلك الشعب والعمل على زرع كراهيتها يؤدي إلى الانسلاخ التام عن الأصول التي تنتمي إليها تلك المجموعة البشرية، مما يحرم تلك المجموعة من الاعتزاز بتاريخها والاستفادة منه، ويمحي لغتها ويسعى لتمكين مكوّناته الثقافية حسب أهدافه السياسية والاقتصادية التي يسعى إليها من خلال هذا البلد المُستَعمَر.
معوقات التفاعل الثقافي بين الشعوب
قد يواجه التفاعل الثقافي العديد من المشكلات التي تقف في وجه تقدّمه وإنتاجيته، منها قدرة بعض الدول الاستعمارية على زرع روح الطائفية في بلد ما، مما يؤدي إلى اتّباع ذلك الشعب لنمط معين من رفض الآخر وعدم احترامه، والشعور بنقصه وعدم استحقاقهِ لما يمكن أن يضمن له الحياة الكريمة، وذلك من أخطر الأشياء التي تُواجه أي مجتمع من المجتمعات، لأنها تتسبب بالحروب الأهلية وتمكّن للخلافات مكانًا واسعًا لتدمير الشعب واستنزاف خيراته وإمكاناته البشرية، وتفتح باب الدماء والموت وتقضي على التفاهم والازدهار الثقافي والمعرفي.
قد يكون من سلبيات التفاعل الثقافي بين الأمم هو انتشار الجرائم فيما بينهم واتّساع تلك الإمكانية التي تؤدي إلى حصول الانتهاكات الشخصية، ومن أسباب ذلك قناعة كل طرف بأنّ له الأحقّية في تكونن الصورة الأساسية لمجتمعه والحصول على رغباته ومتطلّباته، ولا شكّ أنّ الجرائم وانتشارها يفتحُ بابًا واسعًا لتهديم عنصر الأمن في بلد من البلاد ممّا يؤدي إلى اختلال ثقة شعبها وفقدان أهم محور من محاور الحياة الطبيعية.
من سلبياته أيضًا استخدام التفاعل والتأثير الفكري منه في هدم بعض الثقافات لدى الشعوب المستَعمَرة وهدم تاريخها كما تمَّ التنويه سابقًا، فالدول القوية التي تحاول السيطرة على بعض المجتمعات تحاول مَحق لغتها وفكرها ومعتقداتها لتقوم بزرع الكراهية والاستخفاف بجميع مكونات الثقافة الأصيلة لذلك الشعب، مما يؤدي عبر الزمن إلى تشرب الشعب الضعيف لتك المنظومة الفكرية، وإعجابه بما يأتي من الدول القوية من مكوّنات للثقافات، فتسلب ذلك المجتمع تاريخه وتجعله يشعر تجاهها بالخجل والدّمامة.
ممّا تقدّم يتبين أن التفاعل الثقافي يمكن أن يكون سلاحًا ذو حدّين، تستطيع الشعوب أن تستفيد منه فتطور ما لديها من قدرات وطاقات ومعارف، ويمكن أن تخسر بسببه الكثير من مكوّناتها الأصلية التي لا ينبغي لشعب من الشعوب أن يفرّط بها، بل ينبغي أن تكون بالنسبة له نواةً تُورِقُ بكل الخير والنفع للفرد والمجتمع والشعوب الأخرى.
المراجع[+]
- ↑ "المثاقفة، تفاعلات واستيعابات"، الحوار المتمدن ، اطّلع عليه بتاريخ 26/01/2021م. بتصرّف.
- ↑ سورة الحجرات ، آية:49