محتويات
مظاهر التجديد في العصر العباسي
وقع الاصطدام بين الشعراء المحدثين والشعراء القدماء بعد ما أحدثته الحياة العباسيّة من عوامل أدّت إلى البعد عن الحياة العربية التقليدية والموروثة، ولعل أبرز مظاهر التجديد هي:[١]
التجديد في الألفاظ
كيف توسعت مدلولات وألفاظ الكلمات العربية؟
تُعد اللغة مظهر من مظاهر الحياة العقليّة لكل أمة في كل عصر، وكان بنو العباس في العصر العباسي على قدر رفيع من تمكّنهم باللغة، إذ كانت ألفاظهم تتميز بقوة البيان، وحضور البديهة، ومتانة الارتجال، ومن هنا جاء المجتمع العباسي فأدخل ذوقًا جديدًا يُغير من التصورات والمفاهيم الأدبية المختلفة، فأصبح الشعراء يتوغلون في استخدام البديع والاستعارة، وتنظيم الشعر بألفاظ سهلة بسيطة، ولكنّها لا تخلو من التصورات والتشبيهات، وذلك يُعد تجديدًا بقدرتهم على التعبير عن أفكارهم دون الاهتمام بوجود أي قيود تتحكم بألفاظهم، فكان ذلك النوع من التجديد يسهم بانتشار الأشعار وقبولها بين الناس بشكل أسرع وأعمق[٢]، ومن الأشعار التي قالها بشار بن برد، بعد أن جدد في
ألفاظه قوله:[٣]
رَبابَةُ رَبَّةُ البَيتِ
- تَصُبُّ الخَلَّ في الزَيتِ
لَها عَشرُ دَجاجاتٍ
- وَديكٌ حَسَنُ الصَوتِ
لقد سُئل بشار عن سبب قوله الأبيات السابقة وأنّها لا تُمثل أسلوبه الأدبي والشعري، ولكنه حينها أجاب أن لكل شيء موضعه، كأنّما يقول إنّ لكل مقام مقال، ولم يتوقف التجديد هنا بل تحولت أشكال الشعر من قلة التنوع وكثرة التشابه بين الشعراء، إلى وفرة كل ما يتعلق بالبديع والتشبيه، ولا بُدّ أن دخول الأجانب إلى بلاد العرب في العصر العباسي أدى إلى امتزاج الثقافات، وإضافة بعض الألفاظ والتراكيب والدلالات كالالفاظ الفارسيّة واليونانيّة والنبطيّة، فتوسعت مدلولات الكلمات العربية فأصبحت تؤدي معناها الجديد على أكمل وجه.[٤]
التجديد في بنية القصيدة
لماذا رفض المولدون في العصر العباسي مسلك القدماء؟
تُعد بنية القصيدة من أبرز مظاهر التجديد في العصر العباسي، إذ كان الشاعر في العصر الجاهلي في قصيدة المدح، يبدأ الأبيات بالوقوف على أطلال المحبوبة، ومن ثم يستطرد إلى وصف الصحراء ووصف الناقة، أما في العصر العباسي فقد اتسع الخيال عند الشعراء، حتى اتخذ الشاعر في بنية قصيدته موضوعات مختلفة وجديدة ابتعد بها عن البنية التقليدية للقصيدة العربية، إذ كان يصنع مقطوعات كثيرة لمختلف الأغراض الشعريّة متجنبًا الوقوف على الأطلال، ودون أي مقدمات تشبيهية وطللية، ومن أهم القصائد التي مثلّت هذا التجديد هي قصيدة المدح عند مختلف الشعراء العباسيين.[٥]
كانت التطورات التي طرأت على العصر العباسي من أهم الدوافع التي أدت إلى التجديد في بنية القصيدة العربية، بيد أن بعض الشعراء العرب كانوا حريصين على تقاليد شعرهم القديمة والموضوعية، أما المولدون فلم تكن لديهم أي دوافع تدفعهم للحفاظ على التراث في منهج القصيدة، إذ رفضوا مسلك القدماء، ودعوا إلى نبذ المقدمة الطللية للقصيدة، ولم يقف التجديد على بنية القصيدة في الأطلال فقط، بل جددوا بالنهج كذلك، فقد خرج المحدثون من الشعراء عن نهج القصيدة العربية، إذ التحمت القصيدة بعد أن كانت أقسامًا، فأصبحت تدور حول موضوع واحد كالغزل والوصف وغيره، ومن أبرز الشعراء الذين استهزئوا ببنية القصيدة العربية القديمة هو بشار بن برد، بقوله:[٦]
كَيفَ يَبكي لِمِحبَسٍ في طُلولِ
- مَن سَيَقضي لِحَبسِ يَومٍ طَويلِ
إِنَّ في الحَشرِ وَالحِسابِ لَشُغلًا
- عَن وُقوفٍ بِكُلِّ رَسمٍ مُحيلِ
التجديد في الأوزان والقوافي وبحور الشعر
لماذا نفر الناس من الألفاظ الغليظة في العصر العباسي؟
انتشرت الموسيقى والغناء في العصر العباسي فكان ذلك من أهم العوامل التي أدت إلى التجديد في الأوزان والقوافي، إذ جاء الشعر سهلًا وخفيفًا يسهل غناؤه ويلائم الموسيقى، فمال الشعراء إلى النغم القصير، والأوزان القصيرة التي مال إليها العديد من الشعراء، فهم وجدوا بأن تجزئة الأوزان القديمة تُهيء الفرصة لاختيار اللفظ الذي يلائم صورهم، ويُعبر عما يختلج في جوانحهم، فأنتجوا أوزانًا جديدة، مثل: المتوافر والممتد والمطرد، إلى جانب وزن المواليا والذي وُضع بعد نكبة البرامكة، أما عن البحور الشعرية التي وضعها الفراهيدي، فقد كانوا يستخدمون البحور التي تميل إلى الغناء والموسيقى، والتي تلائم قصائدهم الغنائية، كبحر الهزج، والمتقارب، والخفيف والرمل.[٧]
تميزت اللغة القديمة بأنها كانت جزلة الألفاظ، قوية الجرس والرنين، ولكن بعد تطور المجتمع في العصر العباسي وشيوع مظاهر الحياة الحضارية المختلفة، إضافة إلى التقدم العلمي والثقافي اللذين شهدهما أدى إلى تغير قبول الناس لهذه الألفاظ[٨]، فنفروا من الألفاظ القوية والغليظة، ومالوا إلى الألفاظ السهلة والرقيقة، إذ سهّلوا الألفاظ وافتتنوا باستخدام البديع، ولعل ذلك جعل الكثير من الشعراء يميلون إلى الالتزام بالأوزان الجديدة في العصر العباسي والألفاظ الرقيقة والبسيطة، ومن هؤلاء الشعراء أبو العتاهية، فقد كان يميل إلى الأوزان القصيرة والمجزوءة بسبب سهولة ألفاظها، ولكن رغم سهولة هذه الأوزان إلى أنها لم تكن قوية الموسيقى، فقد جاءت في شعر أبي العتاهية هادئة وساكنة، ومنها قوله:[٩]
تَعلّقتُ بِآمالِ
- طوَال أيّ آمال
وأقبلتُ على الدُّنيا
- مُلحًّا أي إقبَالِ
التجديد في المعاني
كيف ابتعد المديح في العصر العباسي عن الفضائل التقليدية المعروفة؟
تميّز العصر العباسي بمظاهر التطور التي ظهرت بمختلف الصور، إذ أدت الحياة العباسية بإحداث تغيرًا واضحًا في الشعر العباسي، فنشأت معاني جديدة تُخالف المعاني التي عُرفت في عصر بني أمية، فلجأ الشعراء إلى مذاهب متعددة ومختلفة في التعبير عن المعاني ووصفها، إذ أسهمت هذه المذاهب بابتداع فنون مختلفة من القول وألوان الكلام، فكانت صناعة الكلام تعني الاهتمام بالدرجة الأولى بإصابة المعنى وتصحيح اللفظ واستخدامه بمكانه الصحيح، فالكلام بشكل عام هو يشتمل على مختلف الألفاظ التي تُعبر عن المعاني المتعددة، لذلك فكان لا بد من صاحب البلاغة أن يُبدع في إصابة المعنى، من خلال التجديد بأنواع الألفاظ المستخدمة وأسلوب توظيف هذه الألفاظ.[١٠]
تطورت المعاني في العصر العباسي تبعًا لتطور الأوضاع الاجتماعية والمفاهيم العامة والمعايير الخلقية، فبعد أن كانت أهم المعاني والصفات التي يُمتدح بها الإنسان هي الكرم والشجاعة والفكاهة، تغيرت عند الخلفاء العباسيين فأصبحوا يريدون من الشعراء أن يمدحوهم مؤكدين حقهم في الخلافة، وأحقيتهم في وراثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون العلويين، وهنا ابتعدوا عن رغبتهم في أن يمدحهم الشاعر بالفضائل التقليدية المعروفة، أمّا عن غرض الهجاء فقد تغير، إذ أصبح مفزعًا وفاحشًا، أما الغزل فقد تحوّل من الغزل العذري إلى الفاحش، وبذلك تجددت موضوعات الشعر القديمة، فخرجت إلى فروع جديدة، يوظفها الشاعر العباسي في أشعاره فيُنمي بها تبعًا لما يراه مناسبًا.[١١]
أدّى التجديد في المعاني بالعصر العباسي إلى ظهور أنواع جديدة من الشعر، ومن هذه الانواع شعر المناسبة، إذ اقتصر هذا الشعر بأخذ موضوعاته من الحياة العامة واليومية، فأصبح الشعر بمثابة حرفة، وليس فنًا من الفنون، وذلك لأنه أصبح أسهل وأيسر عما سبقه من عصور، ومن المعاني التي جُددت في العصر العباسي، هي الوقوف على الأطلال، إذ غيروا الأطلال نفسها واستبدلوها ببعض القصور التي كانت قائمة حينذاك، فأصبح الشاعر بدلًا من أن يقف على الأطلال، فهو يقف على هذه القصور ويمتدحها، ومن أمثلة ذلك قول محمد بن بشير في قصر خرب:[١٢]
ألا يا قَصرَ قَصر النَوشجَاني
- أرى بِك بعد أهلِكَ ما شَجَاني
فلَو أعفَى البَلاء دِيار قَومٍ
- لفضلٍ مِنهُم ولعظم شَان
التجديد في الأغراض القديمة
ما وجه الشبه بين الشعر في العصر العباسي والصحافة في العصر الحديث؟
حافظ الشعراء في العصر العباسي على الأغراض والموضوعات القديمة كالمديح وغيره، إذ أبقوا للشعر العربي القديم حضوره الموروث رُغم بعض النقاط البسيطة التي جددوا بها، إذ كان هذا التجديد في بعضه هو علامة تطوير للشعر العربي ونهوض ببعض أغراضه، ومثال ذلك ما أشعله العباسيون في شعر المديح، إذ وصل جذوته إلى النفوس بسبب خيالهم البارع وعقولهم القوية، ولم يقتصر المديح على ذلك، بل أبدع الشعراء بتصوير الأحداث في أزمنة الخلفاء؛ فصوروا الفتن والحروب والمعارك الداخلية، ممّا جعل قصيدة المديح في العصر العباسي هي بمثابة الصحافة في العصر الحديث، فأصبحت وثائق تاريخية ذات قيمة كبيرة.[١٣]
استمر شعراء العصر العباسي بالمحاولة بالتجديد بكافة الأغراض الشعريّة، مثال ذلك الهجاء، إذ ظهر لونان لغرض الهجاء وهما: الهجاء السياسي والهجاء الشخصي، إذ امتاز هذا الهجاء بأنه أصبح عبارة عن مقطوعات قصيرة وليست قصائد مطولة[١٤]، ويُعد من أشهر وأبرز الشعراء الذين أسهموا بالتجديد في العصر العباسي هو أبو تمام، إذ أثار التجديد عنده جدلًا كبيرًا بين النقاد والشعراء، من خلال تميز شعره بنوع من الغموض الذي ولّده تجديد في القضايا الشعريّة، وفي طريقة توظيفه للأغراض، إضافة إلى تجديده الظاهر في المعاني[١٥]، ومن أشعاره قوله:[١٦]
لِأَيِّ حَبيبٍ يَحسُنُ الرَأيُ وَالوُدُّ
- وَأَكثَرُ هَذا الناسِ لَيسَ لَهُ عَهدُ
أَرى ذَمِّيَ الأَيّامَ ما لا يَضِرُّها
- فَهَل دافِعٌ عَنّي نَوائِبَها الحَمدُ
المراجع[+]
- ↑ يزيد بودربالة، إشكالية الصراع بين المحافظين والمجددين في الشعر العباسي، صفحة 47. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 36-37. بتصرّف.
- ↑ "ربابة ربة البيت"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 23/3/2021. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 37-39. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مطاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 42-43. بتصرّف.
- ↑ حمود السلامة، إبراهيم الدريعي، أحمد المشعلي، الأدب العربي، صفحة 23-24. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 44-46. بتصرّف.
- ↑ أحمد الطيب خوجلي عباس، الإتجاه التجديدي وأثره في نهضة الشعر في العص العباسي الأول، صفحة 30. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 45-47. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 48-50. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مظاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 48-50. بتصرّف.
- ↑ هبة رشاد الدسوقي أحمد، مطاهر التجديد في العصر العباسي الأول، صفحة 50-51. بتصرّف.
- ↑ شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، صفحة 160-161. بتصرّف.
- ↑ حمود السلامة، إبراهيم الدريعي، أحمد المشعلي، الأدب العربي، صفحة 19. بتصرّف.
- ↑ دهنون آمال، تحولات القصيدة العربية، صفحة 4-5. بتصرّف.
- ↑ "لأي حبيب يحسن الرأي والود"، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 24/03/2021م. بتصرّف.