حب الوطن
دائمًا ما يتذكّر الإنسان حنينه إلى وطنه عندما يُفارقه ولو كان فيه لما قيلت قصيدة في حب الوطن، وليالي الشتاء الباردة الطويلة تلعب لعبتها في الذاكرة؛ إذ غالبًا ما يرتبط الحنين بالصمت والبرد والوقت الطويل، الوطن هو تلك الوردة الحمراء التي اكتست بذلك اللون من دموع المغتربين الذين يقضون الليالي في تسطير آلامهم وأحزانهم التي لا يستطيع احتضانها سوى ذلك الورق الأبيض الذي يتجعد من أثر الدموع في آخر تلك الليلة التي لا تفقه من الحنين إلا ما ترى آثاره شاخصًا بين يديها على هيئة أناس عانوا من الاغتراب عن أوطانهم.
ولو أردت أن تعرف معنى حب الوطن فما عليك إلا أن تذهب لترى ذلك عيانًا عند الأطفال الذين سطروا الوطن على شكل أم يتنعمون في أحضانها حتى إذا ما كبروا منهم من تنكر لذلك الحضن وبدأ بنسب نفسه إلى امرأة غير أمه؛ لأنَّها قدمت له حلوى لا تستطيع أمه الأصلية أن تقدمها له، لكن تراها لو انتهت تلك الحلوى من بين يدي ذلك الطفل المدلل هل سيعود إلى أمه الأصلية؟ وتراها هل ستستقبله بعد ما بدر منه من جحود قاسٍ وقلة اعتراف بالحب والمعروف؟
ترى هل الوطن هو فقط كومة من التراب يتحسر الإنسان عليها بين الحين والآخر أم أنَّ الوطن أكبر من ذلك بكثير؟ الوطن هو ليس فقط رمال ولو كان ذلك فما أكثر الرمال أينما ذهب، الوطن هو الانتماء إلى تلك البقعة الصغيرة على الخريطة الكونيَّة التي شاء القدر أن ينتسب إليها ذلك الإنسان الضعيف، الوطن هو الوحيد الذي يرافق الإنسان أينما كان وحيثما ذهب، فلو كان في الطائرة لسألوه من أين أنت، ولو كان في القطار لدلَّت ملامحه على البلد التي ينتمي إليها، ولو جاع لاختار أقرب مطعم يقدم الأكلات التي اعتاد أن يأكلها في وطنه.
كثيرًا ما كانت تتردد تلك الكلمات إلى مسامع أي إنسان وهو طالب في المدرسة وربما قد حفظ الكثير من القصائد عنها مثل الوطن، الاشتياق، حنين الشاعر إلى بلده، الأرض، وغير ذلك من الكلمات الفضفاضة على عقل شاب يمرّ في مرحلة المراهقة، ولكنَّ لو فارق وطنه سيكون ضحيّة لتلك الكلمات التي ما استطاع في ذلك الوقت أن يعاينها لكنَّه سيبقى لو اغترب الضحية التي وقعت في شراكها.
أهمية الوطن
قد يظن بعض النَّاس أنهم يستطيعون تبديل وطنهم، وأنَّ الوطن لا يعني لهم سوى كومة من التراب وبضع أشجار يرونها في كل مكان، ومخطئ من يظن ذلك إذ إنَّ الوطن هو الذاكرة نفسها، هو العائلة والبيت الدافئ والأطعمة الساخنة التي تقدمها الجدة في أيَّام الشتاء ظانةً -حسب خبرتها الطبية- أنَّها تقلل من السعال ومن تهيج الرشح والإنلفونزا، وستثبت الأيام فيما بعد أن دواء الجدة ذلك أفضل من ألف ألف دواءٍ أجنبي قام عليه أمهر الأطباء وجرى في أحدث المختبرات.
في الأيَّام الباردة عادة ما يأتي الوالد مُبكّرًا من عمله يعني في السَّاعة الرابعة مساء إذ يكون قد انتهى من عمله فيما يقارب الساعة الرابعة مساءً، وحسب التوقيت الشتوي بعد نصف ساعة تكون الشمس قد شارفت على المَغيب، ومن عادة الأطفال في ذلك الوقت أن يلعبوا في زقاق البيت مع أقرانهم الصغار، ويختارون في الشتاء ألعابًا تحتاج إلى حركة جسدية عالية حتى تضمن لهم الدفء، فيلعبون في كرة القدم أو في الحبال أو غيرها من الألعاب التي اعتادتها بعض الحارات الشعبية.
ومن ثم يأوي الأطفال بعد يومٍ طويلٍ إلى حضنٍ دافئ يحتويهم ويقلل من المتاعب التي مروا بها طيلة اليوم، فتكون العائلة هي الوطن والأم هي الوطن والجدة والأب هما الوطن الذي يبقى مفقودًا في أرض الاغتراب، إنَّ أهمية الوطن ليست حروفًا تُقال ويسعى بها النَّاس بل للوطن أهمية عالية؛ لأنَّه كرامة الإنسان، فحيثما ذهب لن يكون عزيزًا كما في الوطن، الوطن هو الذاكرة وهو الهوية والوجود والذات، ومن عاش خارج وطنه فإنه لن يجد سوى المآسي الاضطهاد.
إنَّ خبز الغرباء مرٌّ ولو كان معجونًا بأطنان من العسل والسكر لكنَّ خبز الوطن يبقى دافئًا فهو معجون بالأمان والاستقرار، هو معجون بالكلمات الدافئة التي يتبادلها الجيران على نافذة الفرن فذاك يسأل الآخر عن عمله، ويأنس لحديثه ومن ثم يتبادلون بعض الأحاديث التي لا يخلو منها أي مصباح عن أسعار التدفئة في الشتاء، وكيف أثر الصقيع على نتاج الخضراوات المحلية وبالتَّالي ارتفعت الأسعار ذلك الارتفاع الذي لا يوصف.
إنّ جمال الوطن لا يكون فقط في بضع ذرّات من التراب ولكنَّ الوطن أسمى من ذلك، هو الصورة التي لا تُزعزعها أموال الغربة ولا رفاهيّتها ولا إغراءاتها التي تقدّمها للشباب، قد يغتر الشاب بالأموال التي سيجنيها في غربته، ومن ثم يبدأ مقارنة دخله في الوطن بدخله في بلاد الغربة، ولكنَّه من المؤكد أنَّه نسي في هذه المعادلة أن يقارن ما بين دخله العاطفي في سريره الذي تربى بين أحضانه، ودخله النفسي في بلاد القسوة التي ربما لا تتعرف إليه إلا من خلال رقم ما يطلقونه عليه.
واجبنا اتجاه الوطن
ربما يسأل المرء نفسه ترى هل حب الوطن هو غريزة فطريّة عند جميع البشر، وهل كلّ مَن سافر خارج وطنه عانى من مرارة تلك الغربة؟ ترى لو وُلد الأطفال في الغربة وهم لا يعرفون شيئًا عن الجمال الذي عاينه آباؤهم في الوطن عندما كانوا في عمرهم، ولا يعرفون معنى رائحة الخبز التي كانت تفوح عندما كان يبعث الوالد بابنه لشراء الخبز من الفرن المجاور لأي بيت، نعم لقد تعوّد الأولاد في غربتهم على عصر السرعة وكلّ شيء سيكون جاهزًا عبر التوصيلات التي اعتادوها من المتاجر وغيرها.
صحيح أنَّ المغترب يشعر بمرارة الاغتراب عن وطنه وهو شعور مُؤلم لكنّ الذي يشعر بحب وطنه سيسعد بذلك الإيلام؛ لأنَّه يجعله إنسانًا عواطفه جيّاشة تجاه الأشياء التي حضنته في يوم من الأيام، وحبّ الوطن في الإسلام وارد، فذلك رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد أحبّ مكة التي ترعرع فيها ونشأ بها، إنَّ جمال الوطن يتبدّى في النفس تبدّي الشمس بين الغيوم عند شروقها فإذا هي أشرقت وأنارت الأرض قام النَّاس من رقادهم وهم يردّدون حيَّ على العمل، وكذلك الوطن لو أشرق حبّه في النفس لَقالت النفس حيَّ على الإخلاص.
عندما يكبر الأولاد في مكان غير وطنهم لن يستطيعوا ن يكنوا لأوطانهم أيًّا من المشاعر، ولكن ترى كيف سيكون أثر غياب حبّ الوطن عندهم، هل تراهم لا يكنّون المشاعر لأبيهم وأمهم؛ لأنَّ مَن فقد الحب الكبير وهو حبّ الوطن فقد حب كلّ شيء، ولو رغبتهم في حبّ الوطن تراهم كيف سيحبّون شيئًا لم يألفوه؟كيف سيحبّون الوطن وهم لم يتربّوا على دخان مدافئه في الشتاء، ولم يروا أشعّة شمسه وهي تتسلّق الجدران مع كلّ صياح ديك في فجر يُنير الأرض ومن عليها وما بها.
ترى لو شَتم أيّ أحد من النَّاس الوطن أمامهم هل سيُدافعون عنه أو سيدافعون عن الأرض التي أكلوا من خيراتها وشربوا من مائها وترعرعوا في حداثتها! إنَّ أهميّة الدفاع عن الوطن لا تقل عن أهميّة حبّه ولا عن أهميّة العيش في كنفه، إن الوطن يحتاج إلى رجال يقيمونه على أكتافهم ويلتجئ الوطن إليهم في ساعة العسرة كالتجاء الأم إلى أطفالها عندما يكبرون وتريد أن تحتمي بهم من قسوة الحياة.
ولكن شتَّان بين الابن البار الذي يحتوي أمه في ضعفها ويربت على خصلات شعرها ويمسح بيده الحانية على رأسها، وبين ذلك الابن العاق الذي يطلب منها أن تلتجئ إلى غيره، عندها تترك الأم يده، ولن تعود إليه بعد ذلك أبدًا فلا شيء يشبه الخذلان، ولن يغفر أي شيء لذلك الابن عقوقه على الإطلاق، وسيبقى في نظر المجتمع ساقطًا أنانيًا يبحث عن مصلحة نفسه الشخصية ويومًا ما سيعود إلى حضن أمه في الكبر، ولكنَّ تلك الأم ستلفظه كما يلفظ الطفل الصغير مرارة العلقم.
الوطن تلك الكلمة التي لا يستطيع أن يشعر بها إلّا مَن فقدها وقاسى من عذابات الوحدة ما يكون عادة في حكم القانون عقوبة على جرم أو فعل ما خرقَ القانون، ولكن من شاء له القدر أن ينتفي بعيدًا عن حضن وطنه ترى ما هو جرمه، ربما جرمه أن طمع بالحصول على ما لم يقدر له الله، فحكمت الحياة عليه بأنين الحنين إلى أن يموت