مقدمة الخطبة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له،[١] الحمد لله الذي أمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق، وأشهد أن لا إله إلّا الله الحكيم العليم، الخلّاق الرزّاق، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، رُفع إلى السماء ليلة المعراج حتّى جاوز السبع الطباق وهناك فرضت عليه الصلوات الخمس بالاتفاق، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دينه في الآفاق، وسلّم تسليمًا كثيرًا.[٢]
الوصية بتقوى الله
أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد للعباد، قال -تعالى- في كتابه العزيز: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}،[٣] وهي العاقبة الحميدة والنّجاة يوم المَعاد، فقد قال ربّ العباد: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}،[٤][٥] فاتقوا الله -تعالى- وحافظوا على الصلاة وقوموا لله قانتين.[٦]
الخطبة الأولى
عباد الله، إنّ من نِعم الله التي أنعم بها على عباده لينالوا بها المنزلة العالية عنده -سبحانه- والقُربة إليه -جلّ جلاله- نعمةٌ عظيمة، هي صِلةٌ بين العبد وربّه، وخلوةٌ يُناجي بها العبد خالقه، يُفضي إليه فيها بتوبته، ويُقرُّ بخطيئته، ويسكب دمعته، ليخرج منها طاهرًا مطهّراً من الذنوب والخطايا، ألا وإنّ هذه النعمة هي فريضة الصلاة، الركن الثاني من أركان الإسلام، فهي أوّل فريضة افترضها الله -تعالى- على عباده بعد أمرهم بالإخلاص في عبادته، حيث قال -سبحانه-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}،[٧] فهي أعظم الفرائض بعد التوحيد وأحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- فرائضه.[٨]
اعلموا إخوتي في الله أنّ للصلوات الخمس مكانةً عظيمةً عند الله -تعالى- وعند عباده المؤمنين، فهي عمود الإسلام؛ حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُه الصلاةُ، وذروةُ سنامِه الجهادُ)،[٩] وهي أوّل ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن قُبلت الصلاة فسائر عمله مقبول بإذن الله، وإن رُدّت -نعوذ بالله من الخذلان- رُدّ سائر عمله، وهي الفارقة بين الإيمان والكفر، فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (بين الكفرِ والإيمانِ تركُ الصَّلاةِ).[١٠][٢]
فهيهات هيهات من ترْكِ الصلاة والتهاون في أمرها، والظَّنُّ بأنّه من الممكن للمرء أن يؤدّيها متى شاء بحسب هواه ورغبته، فقد فرض الله -تعالى- لها أوقاتًا مُحددّةً يجب تأديتها فيها، فقال -سبحانه-: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}،[١١] والصلاة واجبةٌ على العبد في جميع أوقاته في الحضر والسفر وفي الانشغال والفراغ وفي الصحة والمرض وفي الأمن والخوف.[٢]
عباد الله، إنّ الصلاة هي قرّة عَين المؤمنين، ونجاةٌ للعاملين، بها انشرحت صدور أولياء الله الصالحين، وبها ضاقت صدور أعداء الدين، فهي روضة من رياض العمل الصالح وصِلةٌ بين العبد وربّه، يقوم فيها بين يديه يناجيه بكلامه وذكره ودعائه والخضوع له وتعظيمه، تجتمع فيها عبادات متنوعة؛ تسبيحٌ وتحميد وركوعٌ وسجود، فسبحان من فاوت بين عباده بمحبّتها وإقامتها، فهذا مُحبٌّ لها قائم بها على الوجه الذي يرضي الله -تعالى-، وذاك مُعرِضٌ عنها مُضيّع لها، مُفرّط في أدائها خاسر لدينه ودنياه.[١٢]
عباد الله، أوصيكم ونفسي بالمحافظة على الصلاة وإقامتها كما يجب، والمداومة عليها وملازمتها، والاهتمام بها والحرص عليها، فهي سبيل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، وحريٌّ بنا أن نقيمها على الوجه الذي يرضي ربّنا، وأن نعتني بحدودها وحقوقها، فهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما تبثّه في قلب العبد من النور والبرهان واليقين، الذي سيمنعه من المنكر ويكون حاجزًا بينه وبين الوقوع بالفحشاء، فقد قال -تعالى-: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}.[١٣]
وبها يمحو الله -تعالى- الخطايا ويكفّر الذنوب، حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ).[١٤][١٢]
وقال أيضًا: (أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بهِنَّ الخَطَايَا)،[١٥] أرأيتم يا أخوتي ما أعظم شأن الصلاة، وما أعظم نفعها على العبد في دنياه وآخرته، هيّا بنا إذاً فلنحافظ عليها في أوقاتها، ولنتمّ ركوعها، وسجودها، ولنؤديّها كما علّمنا إيّاها رسولنا الكريم، فننال بذلك رضا ربّنا وشفاعة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، فهي نورٌ في القلب، ونورٌ في الوجه، ونورٌ يوم القيامة، وهي عونٌ للعبد في الدنيا والآخرة، فقد قال الله -تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.[١٦][١٢]
عباد الله، إنّ للصلاة شأنٌ عظيم في ديننا الحنيف، فهي آخر وصيةٍ لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عند موته، وقد تكرّر ذكرها في القرآن الكريم كثيرًا وقُرنت بالزكاة والصبر والنُّسك، وهي أوّل ما أوجبه الله -تعالى- على أنبيائه وذكر تعظيمهم لها في كتابه العزيز، فقال لنبيّه موسى -عليه السلام-: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.[١٧] وعندما ترك سيّدنا إبراهيم -عليه السلام- زوجته وابنه عند بيت الله المحرّم دعا ربّه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}،[١٨] فَذِكْر الصلاة ولم يذكر غيرها دليل على أنّه لا عمل يوازيها.[٨]
وإنّ ممّا يجب العناية به والاهتمام بشأنه قضيّة أداء الصلاة في جماعة، فقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مَن سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ علَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بهِنَّ، فإنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سُنَنَ الهُدَى، وإنَّهُنَّ مَن سُنَنَ الهُدَى، ولو أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ في بُيُوتِكُمْ كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، ولو تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَما مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِن هذِه المَسَاجِدِ، إلَّا كَتَبَ اللَّهُ له بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنْه بهَا سَيِّئَةً، وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ".[١٩][٢٠]
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً الذي فرض على عباده الصلوات لحِكَم بالغة وأسرار، وجعلها صِلة بين العبد وبين ربه، لِيَستنير بذلك قلبه، ويحصل له المطلوب في الدنيا ودار القرار، أمّا بعد:
أيّها المسلمون، أما آن لنا أن نقف وقفةً حازمة ونحاسب أنفسنا في شأن الصلاة ونعتني بحدودها وأركانها وواجباتها التي لا يُقيمها كثير منّا كما يجب، ومن أهمّ هذه الأمور مسألة الخشوع والطمأنينة، فالكثير منّا يُصلّي ولكنّه غير مُطمئن في صلاته، فكره مشغول وقلبه لاهٍ، لا يعرف ما هي فائدة الصلاة الحقيقية، ولا يدرك ما هي غايتها الجليلة، يؤدّي الحركات بلا تفكّر ولا تفكير، وربّما لا يدري ماذا قال في ركوعه أو سجوده، وهذا والله من المُحزن والمُؤسف، ويجب علينا جميعاً أن نراجع أنفسنا وننتبه لصلاتنا ونجتهد حتّى تكون كما أرادها الله منّا.[٢١]
إخوتي في الله، إنّ التَّهاون في أمر الصلاة من أهمِّ أسباب الضعف والهوان، لا سِيَّما صلاة الجماعة، فقد قال -تعالى-: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}،[٢٢] وقد قال ابن كثير رحمه الله: "لما ذكر الله -تعالى- حزب السعداء وهم الأنبياء -عليهم السلام- ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره، ذكر أنَّه خَلَفَ من بعدهم خلف أي قرون أُخر، أضاعوا الصلاة، وإذا أضاعوها فهم لِما سواها من الواجبات أضْيع؛ لأنَّها عماد الدين وقِوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملذَّاتِها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سَيلقون غيًّا، أي خسارًا يوم القيامة، نعوذ بالله أن نكون منهم".[٨]
الدعاء
- اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللّهمّ اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذريّاتنا ربّنا وتقبّل دعاء، ربّنا هب لنا حُكمًا وألحقنا بالصالحين، واجعل لنا لسان صدقٍ في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنّة النعيم، ولا تُخزنا يوم يبعثون، ربّنا هب لنا من الصالحين، ولا تجعلنا فتنةً للذين كفروا، وأوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وأن نعمل صالحًا ترضاه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.[٢٣]
- اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، واجعلْ هذا البلَدَ آمناً مُطْمَئناً وسائرَ بلادِ المسلمين، اللهُمَّ وفِّقَ وليَّ أمرِنا وعلمائنا إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، اللهُمَّ وَفِّقهم للصواب والسداد.
- اللّهمّ ارزقنا القيام بطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنّا، واغفر لنا وتُب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم.[١٢]
المراجع[+]
- ↑ "خطبة عن الصلاة وأهميتها"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 29/6/2021. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "الحث على أداء الصلاة مع جماعة المسلمين"، الفوزان، اطّلع عليه بتاريخ 29/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:197
- ↑ "الوصية بتقوى الله"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 29/6/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة القصص، آية:83
- ↑ ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 395. بتصرّف.
- ↑ سورة البينة، آية:5
- ^ أ ب ت "أهمية الصلاة وفرضيتها"، ملتقى الخطباء، اطّلع عليه بتاريخ 29/6/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن معاذ بن جبل، الصفحة أو الرقم:2866، حديث صحيح لغيره.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن جابر بن عبدالله، الصفحة أو الرقم:2618، حديث صحيح.
- ↑ سورة النساء، آية:103
- ^ أ ب ت ث ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 395-396. بتصرّف.
- ↑ سورة العنكبوت، آية:45
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:233، حديث صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:667، حديث صحيح.
- ↑ سورة البقرة، آية:45
- ↑ سورة طه، آية:13-14
- ↑ سورة إبراهيم، آية:37
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:654، حديث صحيح.
- ↑ "خطبة عن الصلاة وأهميتها"، الأوكة، اطّلع عليه بتاريخ 29/6/2021. بتصرّف.
- ↑ ابن عثيمين، كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع، صفحة 137. بتصرّف.
- ↑ سورة مريم، آية:59
- ↑ "من أدعية الصالحين في القرآن الكريم"، الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد، اطّلع عليه بتاريخ 29/6/2021. بتصرّف.